فصل: تفسير الآية رقم (107)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏90‏]‏

‏{‏وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ ‏(‏90‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالَ الملا الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ‏}‏ عطف على ‏{‏قَالَ الملأ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 88‏]‏ الخ والمراد من هؤلاء الملأ يحتمل أن يكون أولئك المستكبرين وتغيير الصلة لما أن مناط قولهم السابق هو الاستكبار ويكون هذا حكاية لإضلالهم بعد حكاية ضلالهم على ما قيل، ويحتمل أن يكون غيرهم ودونهم في الرتبة شأنهم الوساطة بينهم وبين العامة والقيامة بأمورهم حسبما يراه المستكبرون، أي قالوا لأهل ملتهم تنفيراً لهم وتثبيطاً عن الايمان بعد أن شاهدوا صلابة شعيب عليه السلام ومن معه من المؤمنين فيه وخافوا أن يفارقوهم ‏{‏لَئِنِ اتبعتم شُعَيْبًا‏}‏ ودخلتم في ملته وفارقتم ملة آبائكم ‏{‏إِنَّكُمْ إِذاً لخاسرون‏}‏ أي مغبونون لاستبدالكم الضلالة بالهدى ولفوات ما يحصل لكم بالبخص والتطفيف فالخسران على الأول استعارة وعلى الثاني حقيقة وإلى تفسير الخاسرين بالمغبونين ذهب ابن عباس، وعن عطاء تفسيره بالجاهلين، وعن الضحاك تفسيره بالفجرة؛ وإذا حرف جواب وجزاء معترض كما قال غير واحد بين اسم إن وخبرها‏.‏ وقيل‏:‏ هي إذاً الظرفية الاستقبالية وحذفت الجملة المضاف إليها وعوض عنها التنوين، ورده أبو حيان بأنه لم يقله أحد من النحاة، والجملة جواب للقسم الذي وطأته اللام بدليل عدم الاقتراب بالفاء وسادة مسد جواب الشرط وليست جواباً لهما معاً كما يوهمه كلام بعضهم لأنه كما قيل مع مخالفته للقواعد النحوية يلزم فيه أن يكون جملة واحدة لها محل من الإعراب ولا محل لها وإن جاز باعتبارين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏91‏]‏

‏{‏فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ‏(‏91‏)‏‏}‏

‏{‏فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة‏}‏ أي الزلزلة كما قال الكلبي وفي سورة هود ‏{‏وَأَخَذَتِ الذين ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 94‏]‏ أي صيحة جبريل عليه السلام، ولعلها كانت من مبادي الرجفة فأسند إهلاكهم إلى السبب القريب تارة وإلى البعيد أخرى، وقال بعضهم‏:‏ إن القصة غير واحدة فإن شعيباً عليه السلام بعث إلى أمتين أهل مدين وأهل الأيكة فأهلكت أحدهما بالرجفة والأخرى بالصيحة، وفيه أنه إنما يتم لو لم يكن هلاك أهل مدين بالصيحة، والمروي عن قتادة أنهم الذين أهلكوا بها وأن أهل الأيكة أهلكوا بالظلة‏.‏

وجاء في بعض الآثار أن أهل مدين أهلكوا بالظلة والرجفة، فقد روى عن ابن عباس وغيره في هذه الآية إن الله تعالى فتح عليه باباً من جهنم فأرسل عليهم حراً شديداً فأخذ بأنفاسهم ولم ينفعهم ظل ولا ماء فكانوا يدخلون الأسراب فيجدونها أشد حراً من الظاهر فخرجوا إلى البرية فبعث الله تعالى سحابة فيها ريح طيبة فأظلتهم فوجدوا لها برداً فنادى بعضهم بعضاً حتى اجتمعوا تحتها رجالهم ونساؤهم وصبياهم فألهبها عليهم ناراً ورجفت بهم الأرض فاحترقوا كما يحترق الجراد المقلي وصاروا رماداً‏.‏ ويشكل على هلاكهم جميعاً نساء ورجالاً ما نقل عن عبد الله البجلي قال‏:‏ كان أبو جاد وهو زو حطى وكلمن وسعفص وقرشت ملوك مدين وكان ملكهم في زمن شعيب عليه السلام كلمن فلما هلك يوم الظلة رثته ابنته بقولها‏:‏

كلمن قد هد ركني *** هكله وسط المحله

سيد القوم أتاه الح *** تف نار تحت ظله

جعلت نار عليهم *** دارهم كالمضمحله

اللهم إلا أن يقال‏:‏ إنها كانت مؤمنة فنجت، وقد يقال‏:‏ إن هذا الخبر مما ليس له سند يعول عليه‏.‏

‏{‏فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جاثمين‏}‏ تقدم نظيره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏92‏]‏

‏{‏الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ ‏(‏92‏)‏‏}‏

‏{‏الذين كَذَّبُواْ شُعَيْبًا‏}‏ استئناف لبيان ابتلائهم بشؤم قولهم‏:‏ ‏{‏لَنُخْرِجَنَّكَ ياشعيب والذين ءامَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 88‏]‏ والموصول مبتدأ خبره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا‏}‏ أي لم يقيموا في دارهم، وقال قتادة‏:‏ المعنى كأن لم يعيشوا فيها مستغنين، وذكر غير واحد أنه يقال‏:‏ غنى بالمكان يغني غني وغنياناً إذا أقام به دهراً طويلاً، وقيده بعضهم بالإقامة في عيش رغد، وقال ابن الأنباري كغيره‏:‏ إنه من الغنى ضد الفقر كما في قول حاتم‏:‏

غنينا زماماً بالتصعلك والغنى *** فكلا سقاناه بكأسهما الدهر

فما زادنا بغياً على ذي قرابة *** غنانا ولا أزري بأحسابنا الفقر

وعلى هذا تفسير قتادة، ورد الراغب غنى بمعنى أقام إلى هذا المعنى فقال‏:‏ غنى بالمكان طال مقامه فيه مستغنياً به عن غيره، وقول بعضهم في بيان الآية‏:‏ إنهم استؤصلوا بالمرة بيان لحاصل المعنى، وفي بناء الخبر على الموصول إيماء إلى أن علة الحكم هي الصلة فكأنه قيل‏:‏ الذي كذبوا شعيباً هلكوا لتكذيبهم إياه هلاك الأبد، ويشعر ذلك هنا بأن مصدقيه عليه السلام نجوا نجاة الأبد، وهذا مراد من قال بالاختصاص في الآية، وقيل‏:‏ إنه مبني على أن مثل هذا التركيب كما يفيد التقوى قد يفيد الاختصاص نحو ‏{‏الله يَبْسُطُ الرزق‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 26‏]‏ والقرينة عليه هنا أنه سبحانه ذكر فيما سبق المؤمنين والكافرين ولم يذكر هنا الإهلاك المكذبين، ويرجع حاصل المعنى بالآخرة إلى أنهم عوقبوا بتوعدهم السابق بالإخراج وصاروا هم المخرجين من القرية إخراجاً لا دخول بعده دون شعيب عليه السلام ومن معه، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ هُمُ الخاسرين‏}‏ استئناف آخر لبيان ابتلائهم بعقوبة قولهم الأخير، واستفادة الحصر هنا أوشح من استفادته فيما تقدم، أي الذين كذبوه عليه السلام عوقبوا بقولهم ‏{‏لَئِنْ اتبعتم شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذاً لخاسرون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 90‏]‏ فصاروا هم الخاسرين للدنيا والدين لتكذيبهم لا المتبعون له عليه السلام المصدقون إياه عليه السلام، وبهذا القصر اكتفى عن التصريح بالانجاء كما وقع في سورة هود من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا والذين ءامَنُواْ مَعَهُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 94‏]‏ الخ، وفي «الكشاف» أن في هذا الاستئناف وتكرير الموصول والصلة مبالغة في رد مقالة الملأ لأشياعهم وتسفيه لرأيهم واستهزاء بنصحهم بقومهم واستعظام لما جرى عليهم‏.‏ وأنت تعلم أن في استفادة ذلك كله من نفس هذه الآية خفاء، والظاهر أن مجموع الاسئنافين مؤذن به‏.‏ وبين الطيبي ذلك بأنه تعالى لما رتب العقاب بأخذ الرجفة وتكرهم هامدين لا حراك بهم على التكذيب والعناد اتجه لسائل أن يسأل إلى ماذا صار مآل أمرهم بعد الجثوم‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏الذين كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا‏}‏ أي إنهم استؤصلوا وتلاشت جسومهم كأن لم يقيموا فيها‏.‏

ثم سأل أخصص الدمار بهم أم تعدى إلى غيرهم‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏الذين كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ هُمُ الخاسرين‏}‏ أي اختص بهم الدمار فجعلت الصلة الأولى ذريعة إلى تحقيق الخبر كقوله‏:‏

أن التي ضربت بيتاً مهاجرة *** بكوفة الجند غالبت ودها غول

وكذلك بولغ في الإخبار عن دمار القوم وجيء بتقوى الحكم والتخصيص وجعلت الصلة الثانية علة لوجود الخبر، وجاء تسفيه الرأي من الرد عليهم بعين ما تلفظوا به في نصح قومهم، والاستهزاء من الإشارة إلى أن ماجعلوه نصيحة صار فضيحة وانعكس الحال الذي زعموه؛ ويستفاد عظم الخسران من تعريف الخبر بلام الجنس‏.‏ وأما استعظام ما جرى فمن قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏كَأَن لَّمْ‏}‏ الخ وكذا من مجموع الكلام، ولايخفى أن القول بالاستئناف البياني في الجملتين وجعل الصلة الأولى ذريعة إلى تحقيق الخبر ليس بشيء، وقد ذكر غير واحد أن هذا الاستئناف من غير عطف جار على عادة العرب في مثل هذا المقام فإن عادتهم الاستئناف كذلك في الذم والتوبيخ فيقولون‏:‏ أخوك الذين نهب مالنا أخوك الذي هتك سترنا أخوك الذي ظلمنا، وجوز أبو البقاء أن يكون الموصول الثاني بدلاً من الضمير في ‏{‏يُغْنُواْ‏}‏ وأن يكون في محل نصب بإضمار أعني، وأن يكون الأول مبتدأ والخبر ‏{‏الذين كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ‏}‏ و‏{‏كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ‏}‏ حال من ضمير ‏{‏كَذَّبُواْ‏}‏ وأن يكون الأول صفة للذين كفروا أو بدلاً منه وعلى الوجهين يكون ‏{‏كَأَن لَّمْ‏}‏ الخ حالاً، وما اخترناه هو الأولى كما هو ظاهر فليتدبر‏.‏

‏[‏بم وقوله سبحانه‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏93‏]‏

‏{‏فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آَسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

‏{‏فتولى عَنْهُمْ وَقَالَ ياقوم لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رسالات رَبّى وَنَصَحْتُ لَكُمْ‏}‏ تقدم الكلام على نظيره، بيد أن هذا القول يحتمل أن يكون تأنيباً وتوبيخاً لهم وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَكَيْفَ ءاسى على قَوْمٍ كافرين‏}‏ إنكار لمضمونه، أي لقد أعذرت لكم في الإبلاغ والنصحية والتحذير مما حل بكم فلم تسمعوا قولي ولم تصدقوني ‏{‏فَكَيْفَ ءاسى‏}‏ أي لا آسي عليكم لأنكم لستم أحقاء بالأسى وهو الحزن كما في «الصحاح والقاموس» أو شدة الحزن كما في «الكشاف» ومجمع البيان، ويحتمل أن يكون تأسفاً بهم لشدة خزنه عليهم، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَكَيْفَ‏}‏ الخ إنكار على نفسه لذلك، وفيه تجريد والتفات على ما قيل حيث جرد عليه السلام من نفسه شخصاً وأنكر عليه حزنه على قوم لا يستحقونه والتفت على الخطاب إلى التكلم، وذكر بعض المحققين أن الظاهر أنه ليس من الالتفات والتجريد في شيء فإن قال يقتضي صيغة التكلم وهي تنافي التجريد، وإنما هو نوع من البديع يسمى الرجوع وهو العود على الكلام السابق بالنقض لأنه إذا كان قد أبلغتكم تأسفاً ينافي ما بعده فكأنه بدا له ورجع عن التأسف منكراً لفعله الأول، وقد جاء ذلك كثيراً في كلامهم ومن ذلك قول زهير‏:‏

قف بالديار التي لم تعفها القدم *** بلى وغيرها الأرواح والديم

والنكتة فيه الإشعار بالتوله والذهول من شدة الحيرة لعظم الأمر بحيث لا يفرق بين ما هو كالمتناقض من الكلام وغيره، وابن حجة لا يفرق بين هذا النوع ونوع السلب والايجاب وكأن منشأ ذلك اعتماد في النوع الأخير على تعريف أبي هلال العسكري له ولو اعتمد على تعريف إمام الصناعة ابن أبي الأصبع لما اشتبه عليه الفرق، وعلى الاحتمالين في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏على قَوْمٍ‏}‏ الخ إقامة الظاهر مقام الضمير للإشعار بعدم استحقاقهم التأسف عليهم لكفرهم، وقرأ يحيى بن وثاب ‏{‏فَكَيْفَ‏}‏ بكسر الهمزة وقلب الألف ياء على لغة من يكسر حرف الضارعة كقوله‏:‏

قعيدك أن لا تسمعيني ملامة *** ولا تنكىء جرح الفؤاد فييجعا

وإمالة الألف الثانية، هذا ثم إن شعيباً عليه السلام بعد هلاك من أرسل إليهم نزل مع المؤمنين به بمكة حتى ماتوا هناك وقبورهم على ما روى عن وهب بنمنبه في غربي الكعبة بين دار الندوة وباب سهم‏.‏ وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في المسجد الحرام قبران ليس فيه غيرهما قبر إسماعيل وقبر شعيب عليهما السلام أما قبر إسماعيل ففي الحجر وأما قبر شعيب فمقابل الحجر الأسود، وروى عنه أيضاً أنه عليه السلام كان يقرأ الكتب التي كان الله تعالى أنزلها على إبراهيم عليه السلام، ومن الغريب ما نقل الشهاب أن شعيباً إثنان وأن صهر موسى عليهما الصلاة والسلام من قبيلة من العرب تسمى عنزة وعنزة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان وبينه وبين من تقدم دهر طويل فتبصر والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏94‏]‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ‏(‏94‏)‏‏}‏

‏{‏كافرين وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مّن نَّبِىٍّ‏}‏ إشارة إجمالية إلى بيان أحوال سائر الأمم المذكورة تفصيلاً، وفيه تخويف لقريش وتحذير، ومن سيف خطيب جيء بها لتأكيد النفي، وفي الكلام حذف صفة نبي أي كذب أو كذبه أهلها ‏{‏إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا‏}‏ استثناء مفرغ من أعم الأحوال ‏{‏وَأَخَذْنَا‏}‏ في موضع نصب على الحال من فاعل ‏{‏أَرْسَلْنَا‏}‏ وفي الرضى أن الماضي الواقع حالاً إلا إذا كان بعد إلا فاكتفاؤه بالضمير من دون الواو، وقد كثر نحو ما لقيته إلا أكرمني لأن دخول إلا في الأغلب الأكثر على الاسم فهو بتأويل الأمكر ما لي فصار كالمضارع المثبت وما في هذه الآية من هذا القبيل، وقد يجيء مع الواو وقد نحو ما لقيته إلا وقد أكرمني، ومع الواو وحدها نحو ما لقيته إلا أكرمني لأن الواو مع إلا تدخل في خبر المبتدأ فكيف بالحال ولم يسمع فيه قد من دون الواو، وقال المرادي في «شرح الألفية» إن الحال المصدرة بالماضي المثبت إذا كان تالياً لئلا يلزمها الضمير والخلو من الواو ويمتنع دخول قد وقول

متى يأت هذا الموت لم تلف حاجة *** لنفسي إلا قد قضيت قضاءها

نادر، وقد نصر على ذلك الأشموني وغيره أيضاً، والظاهر أن امتناع قد بعد إلا فيما ذكر إذا كان الماضي حالاً لا مطلقاً، وإلا فقد ذكر الشهاب أن الفعل الماضي لا يقع بعد إلا إلا بأحد شرطين إما تقدم فعل كما هنا‏.‏ وإما مع قد نحو ما زيد إلا قد قام، ولا يجوز ما زيد إلا ضرب، ويعلم مما ذكرنا أن ما وقع في غالب نسخ تفسير مولانا شيخ الإسلام من أن الفعل الماضي لا يقع بعد إلا إلا بأحد شرطين إما تقدير قد كما في هذه الآية أو مقارنة قد كما في قولك‏:‏ ما زيد إلا قد قام ليس على ما ينبغي بل هو غلط ظاهر كما لا يخفى، والمعنى فيما نحن فيه وما أرسلنا في قرية من القرى المهلكة نبياً من الأنبياء عليهم السلام في حال من الأحوال الإحال كوننا آخذين أهلها ‏{‏بالبأساء‏}‏ أي بالبؤس والفقر ‏{‏والضراء‏}‏ بالضر والمرض، وبذلك فسرهما ابن مسعود وهو معنى قول من قال‏:‏ البأساء في المال والضراء في النفس وليس المراد أن ابتداء الإرسال مقارن للأخذ المذكور بل إنه مستتبع له غير منفك عنه ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ‏}‏ أي كي يتضرعوا ويخضعوا ويتوبوا من ذنبهم وينقادوا لأمر الله تعالى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏95‏]‏

‏{‏ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آَبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏95‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ بَدَّلْنَآ‏}‏ عطف على ‏{‏أخذنا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 94‏]‏ داخل في حكمه ‏{‏مَكَانَ السيئة‏}‏ التي أصابتهم لما تقدم ‏{‏الحسنة‏}‏ وهي السعة والسلامة، ونصب ‏{‏مَّكَانَ‏}‏ كما قيل على الظرفية و‏{‏بَدَّلَ‏}‏ متضمن معنى أعطى الناصب لمفعولين وهما هنا الضمير المحذوف والحسنة أي أعطيناهم الحسنة في مكان السيئة، ومعنى كونها في مكانها أنها بدل منها‏.‏ وقال بعض المحققين‏:‏ الأظهر أن مكان مفعول به لبدلنا لا ظرف، والمعنى بدلنا مكان الحال السيئة الحال الحسنة فالحسنة هي المأخوذة الحاصلة في مكان السيئة المتروكة والمتروك هو الذي تصحبه الباء في نحو بدلت زيداً بعمرو ‏{‏حتى عَفَواْ‏}‏ أي كثروا ونموا في أنفسهم وأموالهم، وبذلك فسره ابن عباس وغيره من عفا النبات وعفا الشحم والوبر إذا كثرت، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أحفوا الشوارب واعفوا اللحى ‏"‏ وقول الحطيئة‏:‏

بمستأسد القريان عاف نباته *** تساقطني والرحل من صوت هدهد

وقوله‏:‏

ولكنا نعض السيف منها *** بأسوق عافيات الشحم كوم

وتفسير أبي مسلم له بالإعراض عن الشكر ليس بياناً للمعنى اللغوي كما لا يخفى، ‏{‏وحتى‏}‏ هذه الداخلة على الماضي ابتدائية لا غائية عند الجمهور، ولا محل للجملة بعدها كما نقل ذلك الجلال السيوطي في «شرح جمع الجوامع» له عن بعض مشايخه، وأما زعم ابن مالك أنها جارة غائية وأن مضمرة بعدها على تأويل المصدر فغلطه فيه أبو حيان وتبعه ابن هشام فقال‏:‏ لا أعرف له في ذلك سلفاً، وفيه تكلف إضمار من غير ضرورة، ولا يشكل عليه ولا على من يقول؛ إن معنى الغاية لازم لحتى ولو كانت ابتدائية أن الماضي لمضيه لا يصلح أن يكون غاية لماقبل لتأخر الغاية عن ذي الغاية لأن الفعل وإن كان ماضياً لكنه بالنسبة إلى ما صار غاية له مستقبل فافهم‏.‏

‏{‏يَصِدُّونَ وَقَالُواْ‏}‏ غير واقفين على أن ما أصابهم من الأمرين ابتلاء منه سبحانه ‏{‏قَدْ مَسَّ ءابَاءنَا‏}‏ كما مسنا‏.‏

‏{‏الضراء والسراء‏}‏ وما ذلك إلا من عادة الدهر يعاقب في الناس بين الضراء والسراء ويداولهما بنيهم من غير أن يكون هناك داعية إليهما أو تبعة تترتب عليهما وليس هذا كقول القائل‏:‏

ثمانية عمت بأسبابها الورى *** فكل امرىء لا بد يلقى الثمانية

سرور وحزن واجتماع وفرقة *** وعسر ويسر ثم سقم وعافية

كما لا يخفى، ولعل تأخير السراء للإشعار بأنها تعقب الضراء فلا ضير فيها ‏{‏فأخذناهم‏}‏ عطف على مجموع عفواً وقالوا أو على قالوا لأنه المسبب عنه أي فأخذناهم إثر ذلك ‏{‏بَغْتَةً‏}‏ أي فجأة‏.‏

‏{‏وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ‏}‏ بشيء من ذلك ولا يخطرون ببالهم شيئاً من المكاره، والجملة حال مؤكدة لمعنى البغتة، وهذا أشد أنواع الأخذ كما قيل‏:‏ وأنكأ شيء يفجؤك البغت، وقيل‏:‏ المراد بعدم الشعور عدم تصديقهم بإخبار الرسل عليهم السلام بذلك لا خلو أذهانهم عنه ولا عن وقته لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غافلون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 131‏]‏ ولا يخفى مافيه من الغفلة عن معنى الغفلة وعن محل الجملة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏96‏]‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏96‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى‏}‏ أي القرى المهلكة المدلول عليها بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فِى قَرْيَةٍ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 94‏]‏ فاللام للعهد الذكرى والقرية وإن كانت مفردة لكنها في سياق النفي فتساوي الجمع، وجوز أن تكون اللام للعهد الخارجي إشارة إلى مكة وما حولها‏.‏ وتعقب ذلك بأنه غير ظاهر من السياق، ووجه بأنه تعالى لما أخبر عن القرى الهالكة بتكذيب الرسل وأنهم لو آمنوا سلموا وغنموا انتقل إلى انذار أهل مكة وما حولها مما وقع بالأمم والقرى السابقة‏.‏

وجوز في «الكشاف» أن تكون للجنس، والظاهر أن المراد حينئذ ما يتناول القرى المرسل إلى أهلها من المذكورة وغيرها لا ما لا يتناول قرى أرسل إليها نبي وأخذ أهلها بما أخذ وغيرها كما قيل لإباء ظاهر ما في حين الاستدراك الآتي ‏{‏ءامَنُواْ‏}‏ أي بما أنزل على أنبيائهم ‏{‏واتقوا‏}‏ أي ما حرم الله تعالى عليهم كما قال قتادة ويدخل في ذلك ما أرادوه من كلمتهم السابقة‏.‏

‏{‏لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بركات مّنَ السماء والارض‏}‏ أي ليسرنا عليهم الخير من كل جانب، وقيل‏:‏ المراد بالبركات السماوية المطر وبالبركات الأرضية النبات، وأياً ما كان ففي فتحنا استعارة تبعية‏.‏ ووجه الشبه بين لمستعار منه والمستعار له الذي أشرنا إليه سهولة التناول، ويجوز أن يكون هناك مجاز مرسل والعلاقة اللزوم ويمكن أن يتكلف لتحصيل الاستعارة التمثيلية، وفي الآية على ما قيل إشكال وهو أنه يفهم بحسب الظاهر منها أنه لم يفتح عليهم بركات من السماء والأرض، وفي الأنعام ‏{‏فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَىْء‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 44‏]‏ وهو يدل على أنه فتح عليهم بركات من السماء والأرض؛ وهو معنى قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَبْوَابَ كُلّ شَىْء‏}‏ وهو يدل على أنه فتح عليهم بركات من السماء والأرض؛ وهو معنى قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَبْوَابَ كُلّ شَىْء‏}‏ لأن المراد منها الخصب والرخاء والصحة والعافية المقابلة أخذناهم بالبأساء والضراء، وحمل فتح البركات على إدامته أو زيادته عدول عن الظاهر وغير ملائم لتفسيرهم الفتح بتيسير الخير ولا المطر والنبات‏.‏ وأجاب عنه الخيالي بأنه ينبغي أن يارد بالبركات غير الحسنة أو يراد آمنوا من أول الأمر فنجوا من البأساء والضراء كما هو الظاهر، والمراد في سورة الأنعام بالفئج ما أريد بالحسنة ههنا فلا يتوهم الأشكال انتهى‏.‏ وأنت خبير بأن أرادة آمنوا من أول الأمر إلى آخره غير ظاهرة بل الظاهر أنهم لو أنهم آمنوا بعد أن ابتلوا ليسرنا عليهم ما يسرنا مكان ما أصابهم من فنون العقوبات التي بعضها من السماء كأمطار الحجارة وبعضها من الأرض كالرجفة وبهذا ينحل الإشكال لأن آية الأنعام لا تدل على نه فتح لهم هذا الفتح كما هو ظاهر لتاليها، وما ذكر من أن المراد بالفتح هناك ما أريد بالحسنة ههنا إن كان المراد به أن الفتح هناك واقع موقع إعطاء الحسنة بدل السيئة هنا حيث كان ذكر كل منهما بعد ذكر الأخذ بالبأساء والضراء وبعده الأخذ بغتة فربما يكون له وجه لكنه وحده لا يجدي نفعاً، وإن كان المراد به أن مدلول ذلك العام المراد به التكثير هومدلول الحسنة فلا يخفى ما فيه فتدبر، وقيل‏:‏ المراد بالبركات السماوية والأرضية الأشياء التي تحمد عواقبها ويسعد في الدارين صاحبها وقد جاءت البركة بمعنى السعادة في كلامهم فتحمل هنا على الكامل من ذلك الجنس ولا يفتح ذلك إلا للمؤمن بخلاف نحو المطر والنبات والصحة والعافية فإنه يفتح له وللكافر أيضاً استدراجاً ومكراً، ويتعين هذا الحمل على ما قيل إذا أريد من القرى ما يتناول قرى أرسل إليها نبي وأخذ أهلها بما أخذ وغيرها، وقيل‏:‏ البركات السماوية إجابة الدعاء والأرضية قضاء الحوائج فليفهم‏.‏

وقرأ ابن عامر ‏{‏لَفَتَحْنَا‏}‏ بالتشديد ‏{‏ولكن كَذَّبُواْ‏}‏ أي ولكن لم يؤمنوا ولم يتقوا، وقد اكتفى بذكر الأول لاستلزامه الثاني وللإشارة إلى أنه أعظم الأمرين ‏{‏فأخذناهم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ‏}‏ من أنواع الكفر والمعاصي التي من جملتها قولهم السابق، والظاهر أن هذا الأخذ والمتقدم في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فأخذناهم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 95‏]‏ واحد وليس عبارة عن الجدب والقحط كما قيل‏:‏ لأنهما قد زالا بتبديل الحسنة مكان السيئة، وحمل أحد الأخذين على الأخذ الأخروي والآخر على الدنيوي بعيد، ومن ذهب إلى حمل أل على الجنس على الوجه الأخير فيه يلزمه أن يحمل كذبوا فأخذناهم على وقوع التكذيب والأخذ فيما بينهم ولا يخفى بعده‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏97‏]‏

‏{‏أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ ‏(‏97‏)‏‏}‏

‏{‏أَفَأَمِنَ أَهْلُ القرى‏}‏ الهمزة لانكار الواقع واستقباحه، وقيل‏:‏ لانكار الوقوع ونفيه، وتعقب بأن ‏{‏فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 99‏]‏ الخ يأباه، والفاء للتعقيب مع السبب، والمراد بأهل القرى قيل‏:‏ أهل القرى المذكورة على وضع المظهر موضع المضمر للإيذان بأن مدار التوبيخ أمن كل طائفة ما أتاهم من البأس لا أمن مجموع الأمم، وقيل‏:‏ المراد بهم أهل مكة وما حواليها ممن بعث إليه نبينا صلى الله عليه وسلم وهو الأولى عندي وإلى ذلك ذهب محيي السنة، والعطف على القولين على ‏{‏فأخذناهم بَغْتَةً‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 95‏]‏ لا على محذوف ويقدر بما يناسب المقام كما وقع نحو ذلك في القرآن كثيراً، وأمر صدارة الاستفهام سهل، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى ءامَنُواْ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 96‏]‏ الخ اعتراض توسط بينهما للمسارعة إلى بيان أن الأخذ المذكور مما كسبته أيديهم نظراً للأول ولأنه يؤيد ما ذكر من أن الأخذ بغتة ترتب على الإيمان والتقوى، ولو عكس لانعكس الأمر نظراً للثاني، ولو جعلت اللام فيما تقدم للجنس أكد هذا الاعتراض المعطوف والمعطوف عليها وشملهما شمولاً سواء على ما في الكشف ولم يجعل العطف على ‏{‏فإخذناهم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 96‏]‏ الأقرب لأنه لم يسق لبيان القرى وقصة هلاكها قصداً كالذي قبله فكان العطف عليه دونه أنسب وهذا إذا أريد بالقرى القرى المدلول عليها بما سبق، وأما إذا أريد بها مكة وما حولها فوجه ذلك أظهر لأن منشأ الانكار ما أصاب الأمم السالفة لا ما أصاب أهل مكة ومن حولها من القحط وضيق الحال، وربما يقال‏:‏ إذا كان المراد بأهل القرى في الموضعين أهل مكة وما حولها يكون العطف على الأقرب أنسب، والمعنى أبعد ذلك الأخذ لمن استكبر وتعزز وخالف الرسل عليهم السلام وشيوعه والعلم به يأمن أهل القرى المشاركون لهم في ذلك ‏{‏أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا‏}‏ أي عذابنا ‏{‏بياتا‏}‏ أي وقت بيات وهو مراد من قال ليلا، وهو مصدر بات ونصبه على الظرفية بتقدير مضاف، ويجوز أن يكون حالا من المفعول أي بائتين، وجوز أن يكون مصدر بيت ونصبع على أنه مفعول مطلق ليأتيهم من غير لفظه أي تبيبتاً أو حال من الفاعل بمعنى مبيتا بالكسر أو من المفعول بمعنى مبيتين بالفتح، واختار غير واحد الظرفية ليناسب ما سيأتي ‏{‏وَهُمْ نَائِمُونَ‏}‏ حال من ضميرهم البارز أو المستتر في بياتا لتأويله بالصفة كما سمعت وهو حال متداخلة حينئذ

تفسير الآية رقم ‏[‏98‏]‏

‏{‏أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ ‏(‏98‏)‏‏}‏

‏{‏أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القرى‏}‏ انكار بعد انكار للمبالغة في التوبيخ والتشديد، ولم يقصد الترتيب بينهما فلذا لم يؤت بالفاء‏.‏

وقرأ نافع‏.‏ وابن كثير‏.‏ وابن عامر‏.‏ ‏{‏أَوْ‏}‏ بسكون الواو وهي لأحد الشيئين والمراد الترديد بين أن يأتيهم العذاب بياتاً وما دل عليه قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَن يَأْتِيَهُمُ‏}‏ أي ضحوة النهار وهو في الأصل ارتفاع الشمس أو شروقها وقت ارتفاعها ثم استعمل للوقت الواقع فيه ذلك وهو أحد ساعات النهار عندهم وهي الذرور والبزوغ والضحى والغزالة والهاجرة والزوال والدلوك والعصر والأصيل والصنوت والحدور والغروب وبعضهم يسميها البكور والشروق والأشراق والراد والضحى والمنوع والهاجرة والأصيل والعصر والطفل والحدود والغروب، ويكون كما قال الشهاب متصرفاً إن لم يرد به وقت من يوم بعينه وغير متصرف ان أريد به ضحوة يوم معين فيلزم النصب على الطرفية وهو مقصور فإن فتح مد، وقد عدوا لفظ الضحى مما يذكر ويؤنث‏.‏ ‏{‏وَهُمْ يَلْعَبُونَ‏}‏ أي يلهون من فرط الغفلة وهو مجاز مرسل في ذلك، ويحتمل أن يكون هناك استعارة أي يشتغلون بما لا نفع فيه كأنهم يلعبون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏99‏]‏

‏{‏أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏99‏)‏‏}‏

‏{‏أفَأمنُوا مَكْرَ الله‏}‏ تكرير لمجموع الانكارين السابقين جمعاً بين التفريق قصداً إلى زيادة التحذير والإنذار، وذكر جمع من جلة المحققين أنه لو جعل تكريراً له ولما سلف من غرة أهل القرى السابقة أيضاً على معنى أن الكل نتيجة الأمن من مكر الله تعالى لجاز إلا أنه لما جعل تهديداً للموجودين كان الأنسب التخصيص، وفيه تأمل‏.‏ والمكر في الأصل الخذاع ويطلق على الستر يقال‏:‏ مكر الليل أي ستر بظلمته ما هو فيه، وإذا نسب إليه سبحانه فالمراد به استدراجه العبد العاصي حتى يهلكه في غفلته تشبيهاً لذلك بالخداع، وتجوز هذه النسبة إليه سبحانه من غير مشاكلة خلافاً لبعضهم، وهو هنا إتيان البأس في الوقتين والحالين المذكورين، وهل كان تبديل مكان السيئة الحسنة المذكور قبل مكراً واستدراجاً أو ملاطفة ومراوحة‏؟‏ فيه خلاف والكل محتمل ‏{‏فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ القوم الخاسرون‏}‏ أي الذين خسروا أنفسهم فاضاعوا فطرة الله التي فطر الناس عليها والاستعداد القريب المستفاد من النظر في الآيات والفاء هنا متعلق كما قال القطب الرازي وغيره بمقدر كأنه قبل فلما آمنوا خسروا فلا يأمن الخ‏.‏ وقال أبو البقاء إنها للتنبيه على تعقيب العذاب أمن مكر الله تعالى، وقد يقال‏:‏ إنها لتعليل ما يفهمه الكلام من ذم الأمن واستقباحه أو يقال إنها فصيحة، ويقدر ما يستفاد من الكلام شرطاً أي إذا كان الأمن في غاية القبح فلا يرتكبه إلا من خسر نفسه، واستدلت الحنفية بالآية على أن الأمن من مكر الله تعالى وهو كما في جميع الجوامع الاسترسال في المعاصي إتكالاً على عفو الله تعالى كفر، ومثله اليأس من رحمة الله تعالى لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنَّهُ لاَ يَيْأس مِنْ رُوحِ اللهِ إلاَّ القَوْم الكَافِرُون‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 87‏]‏ وذهبت الشافعية إلى أنهما من الكبائر لتصريح ابن مسعود رضي الله تعالى عنه بذلك وروى ابن أبي حاتم‏.‏ والبزار عن ابن عباس أنه صلى الله تعالى عليه وسلم سئل ما الكبائر‏؟‏ فقال‏:‏ الشرك بالله تعالى واليأس من روح الله والامن من مكر الله وهذا أكبر الكبائر قالوا‏:‏ وما ورد من أن ذلك كفر محمول على التغليظ وآية لا ييأس الخ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الزانية لاَ يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 3‏]‏ و‏{‏لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الاخر يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ الله‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 22‏]‏ في قول‏.‏ وقال بعض المحققين‏:‏ إن كان في الأمن اعتقاد أن الله تعالى لا يقدر على الانتقام منه وكذا إذا كان في اليأس اعتقاد عدم القدرة على الرحمة والاحسان أو نحو ذلك فذلك مما لا ريب في أنه كفر وإن خلا عن نحو هذا الاعتقاد ولم يكن فيه تهاون وعدم مبالاة بالله تعالى فذلك كبيرة وهو كالمحاكمة بين القولين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏100‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ‏(‏100‏)‏‏}‏

‏{‏أَوَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الارض مِن بَعْدِ أَهْلِهَا‏}‏ أي يخلفون من خلا قبلهم من الأمم، والمراد بهم كما روي عن السدى المشركون وفسروا بأهل مكة ومن حولها، وعليه لا يبعد أن يكون في الآية إقامة الظاهر مقام الضمير إذا كان المراد بأهل القرى سابقاً أهل مكة وما حولها، وتعدية فعل الهداية باللام لأنها كما روي عن ابن عباس‏.‏ ومجاهد بمعنى التبيين وهو على ما قيل‏:‏ إما بطريق المجاز أو التضمين أو لتنزيله منزلة اللازم كأنه قيل‏:‏ أغفلوا ولم يفعل الهداية لهم ‏{‏أَن لَّوْ نَشَاء أصبناهم بِذُنُوبِهِمْ‏}‏ أي بجزاء ذنوبهم كما أصبنا من قبلهم، وإذا ضمن اصبنا معنى أهلكنا لا يحتاج إلى تقدير مضاف‏.‏ وأن مخففة من الثقيلة وسمها ضمير شأن مقدر وخبره الجملة الشرطية والمصدر المؤول فاعل ‏{‏يَهْدِ‏}‏ ومفعوله على احتمال التضمين محذوف أي أو لم يتبين لهم مآل أمرهم أو نحو ذلك‏.‏ وجوز أن يكون الفاعل ضمير الله تعالى وأن يكون ضميراً عائداً على ما يفهم مما قبل، أي أو لم يهد لهم ما جرى على الأمم السابقة‏.‏ وقرأ عبد الرحمن السلمي‏.‏ وقتادة، وروي عن مجاهد‏.‏ ويعقوب ‏{‏نهد‏}‏ بالنون فالمصدر حينئذ مفعول، ومن الناس من خص اعتبار التضمين أو المجاز بهذه القراءة واعتبار التنزيل منزلة اللازم بقراءة الياء، وفيه بحث، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنَطْبَعُ على قُلُوبِهِمْ‏}‏ جملة معترضة تذييلية أي ونحن من شأننا وسنتنا أن نطبع على قلب من لم نرد منه الأيمان حتى لا يتعظ بأحوال من قبله ولا يلتفت إلى الأدلة، ومن أراد من أهل القرى فيما تقدم أهل مكة جعله تأكيداً لما نعى عليهم من الغرة والأمن والخسران أي ونحن نطبع على قلوبهم فلذلك اقتفوا آثار من قبلهم ولم يعتبروا بالآيات وأمنوا من البيات لمستخلفيهم حذو النعل بالنعل‏.‏ وجوز عطفه على مقدر دل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَ لَمْ يَهْدِ‏}‏ وعطفه عليه أيضاً وهو وإن كان إنشاء إلا أن المقصود منه الأخبار بغفلتهم وعدم اهتدائهم أي لا يهتدون أو يغفلون عن الهداية أو عن التأمل والتفكر ونطبع الخ‏.‏

وجوز أن يكون عطفا على يرثون، واعترض بأنه صلة والمعطوف على الصلة صلة ففيه الفصل بين أبعاض الصلة بأجنبي وهو ‏{‏أَن لَّوْ نَشَاء‏}‏ سواء كانت فاعلاً أو مفعولاً، ونقل أبو حيان عن الأنباري أنه قال‏:‏ يجوز أن يكون معطوفاً على ‏{‏أصبنا‏}‏ إذا كان بمعنى نصيب فوضع الماضي موضع المستقبل عند وضوح معنى الاستقبال كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَبَارَكَ الذى إِن شَاء جَعَلَ لَكَ خَيْراً مّن ذلك‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 10‏]‏ أي إن يشأ، يدل عليه ‏{‏وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 10‏]‏ فجعل لو شرطية بمعنى إن ولم يجعلها التي هي لما كان سيقع لوقوع غيره وجعل أصبنا بمعنى نصيب، وقد يرتكب التأويل في جانب المعطوف فيؤول ‏{‏نَطْبَعُ‏}‏ بطبعنا، ورد الزمخشري هذا العطف بأنه لا يساعد عليه المعنى لأن القوم كانوا مطبوعاً على قلوبهم موصوفين بصفة من قبلهم من اقتراف الذنوب والإصابة بها وذلك يؤدي إلى خلوهم عن هذه الصفة وأن الله تعالى لو شاء لاتصفوا بها، وتعقبه ابن المنير بأنه لا يلزم أن يكون المخاطبون موصوفين بالطبع ولا بد وهم وإن كانوا كفاراً ومقترفين للذنوب فليس الطبع من لوازم الاقتراف البتة إذ هو التمادي على الكفر والإصرار والغلو في التصميم حتى يكون الموصوف به مأيوساً من قبوله للحق ولا يلزم أن يكون كل كافر بهذه المثابة بلى إن الكافر يهدد لتماديه على الكفر بأن يطبع الله تعالى على قلبه فلا يؤمن أبدا وهو مقتضى العطف على ‏{‏أصبنا‏}‏ فتكون الآية قد هددتهم بأمرين الإصابة بذنوبهم والطبع على قلوبهم والثاني أشد من الأول وهو أيضاً نوع من الإصابة بالذنوب والعقوبة عليها ولكنه أنكى أنواع العذاب وأبلغ صنوف العقاب، وكثيراً ما يعاقب الله تعالى على الذنب بالإيقاع في ذنب أكبر منه، وعلى الكفر بزيادة التصميم عليه والغلو فيه كما قال سبحانه‏:‏

‏{‏فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 125‏]‏ كما زادت المؤمنين إيماناً إلى إيمانهم وهذا النوع من الثواب والعقاب مناسب لما كان سبباً فيه وجزاء عليه فثواب الإيمان إيمان وثواب الكفر كفر، وإنما الزمخشري يحاذر من هذا الوجه دخول الطبع في مشيئة الله تعالى وذلك عنده محال لأنه بزعمه فبيح والله سبحانه عنه متعال، وفي التقريب نحو ذلك فإنه نظر فيما ذكره الزمخشري بأن المذكور كونهم مذنبين دون الطبع وأيضاً جاز أن يراد لو شئنا زدنا في طبعهم أو لأمناه، والحق كما قال غير واحد من المحققين أن منعه من هذا العطف ليس بناء على أنه لا يوافق رأيه فقط بل لأن النظم لا يقتضيه فإن قوله سبحانه ‏{‏فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ‏}‏ أي سماع تفهم واعتبار يدل على أنهم مطبوع على قلوبهم لأن المراد استمرار هذه الحال لا أنه داخل في حكم المشيئة لأن عدم السماع كان حاصلاً ولو كان كذلك لوجب أن يكون منفياً، وأيضاً التحقيق لا يناسب الغرض، و‏{‏كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله على قُلُوبِ الكافرين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 101‏]‏ ظاهر الدلالة على أن الوارثين والموروثين كل من أهل الطبع وكذا قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 101‏]‏ يدل على أن حالهم منافية للإيمان وأنه لا يجىء منه البتة وأيضاً إدامة الطبع أو زيادته لا يصلح عقوبة للكافرين بل قد يكون عقوبة ذنب المؤمن كما ورد في الصحيح وما يورد من الدغدغة على هذا مما لا يلتفت إليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏101‏]‏

‏{‏تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ ‏(‏101‏)‏‏}‏

‏{‏تِلْكَ القرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَائِهَا‏}‏ جملة مستأنفة جارية مجرى الفذلكة مما قبلها منبئة عن غاية غواية الأمم المذكورة وتلك إشارة إلى قرى الأمم المحكية من قوم نوح وعاد وثمود وأضرابهم، واللام للعهد وجوز أن تكون للجنس، وهو مبتدأ والقرى صفته والجملة بعده خبر‏.‏

وجوز الزمخشري أن تكون تلك مبتدأ، والقرى خبر، والجملة خبر بعد خبر على رأي من يرى جواز كون الخبر الثاني جملة، وأن تكون الجملة حالا، وإفادة الكلام بالتقييد بها، واعترضه في التقريب بأنه جعل شرط الإفادة التقييد بالحال وعلى تقدير كون ذلك خبراً بعد خبر ينتفي الشرط إلا أن يريد تلك القرى المعلومة حالها أو صفتها على أن اللام للعهد لكنه يوجب الاستغناء عن اشتراط إفادته بالحال انتهى، وفيه أن حديث الاستغناء ممنوع فإن المعنى كما في الكشف على التقديرين مختلف لأنه إذا جعل حالا يكون المقصود تقييده بالحال كما ذكره الزجاج في نحو هذا زيد قائماً إذا جعل قيداً للخبر إن الكلام إنما يكون مع من يعلم أنه زيد والاجاء الإحالة لأنه يكون زيد قائماً كان أولا، وإذا جعل خبراً بعد خبر فتلك القرى على أسلوب ‏{‏ذَلِكَ الكِتَاب‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 2‏]‏ على أحد الوجوه و‏{‏نَقْصٍ‏}‏ خبر ثان تفخيماً على تفخيم حيث نبه على أن لها قصصاً وأحوالاً أخرى مطوية‏.‏

وقال الطيبي‏:‏ إن الحال لما كانت فضلة كان الاشكال قائماً في عدم إفادة الخبر فأجيب بأنها ليست فضلة من كل وجه وأما الخبر فلا عجب من كونه كالجزء من الأول كما في قولك هذا حلو حامض، وهذا بمنزلته، وفيه أن عد ما نحن فيه من ذلك القبيل حامض ومستغنى عنه بالحلو، ومثله بل أدهى وأمر الجواب بأنه لما اشترك الحلوان في ذات المبتدأ كفى إفادة أحدهما وصيغة المضارع للإيذان بعدم انقضاء القصة بعد و‏{‏مِنْ‏}‏ للتبعيض أي بعض أخبارها التي فيها عظة وتذكير، وتصدير الكلام بذكر القرى وإضافة الأنباء أي الأخبار العظيمة الشأن إليها مع أن المقصود أنباء أهلها وبيان أحوالهم حسبما يؤذن به قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات‏}‏ لما ذكره سيخ الإسلام من أن حكاية هلاكهم بالمرة على وجه الاستئصال بحيث يشمل أماكنهم أيضاً بالخسف بها والرجفة وبقائها خاوية معطلة أهول وأفظع، والباء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بالبينات‏}‏ متعلقة أما بالفعل المذكور على أنها للتعدية، وإما بمحذوف وقع حالا من فاعله أي متلبسين بالبينات على معنى أن رسول كل أمة من الأمم المهلكة الخاص بهم جاءهم بالمعجزات البينة الجمة لا أن كل رسول جاء ببينة واحدة، وما ذكروه من أن مقابلة الجمع بالجمع تقتضي انقسام الآحاد على الآحاد لا يقتضي كما قال المولى المدقق أبو القاسم السمرقندي في تعليقاته على المطول أن يلزم في كل مقابلة مقارنة الواحد للواحد لأن انقسام الآحاد على الآحاد كما يجوز أن يكون على السواء يجوز أن يكون على التفاوت، مثلا إذا قيل‏:‏ باع القوم دوابهم يفهم أن كلا منهم باع ماله من دابة، ويجوز أن تتعدد دابة البعض، ولهذا قبل في قوله سبحانه‏:‏

‏{‏فاغسلوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏ إن غسل يدي كل شخص ثابت بالكتاب والمقام هنا يقتضي ما ذكرناه فإن الجملة مستأنفة مبينة لكمال عتوهم وعنادهم، وقول عز شأنه‏:‏ ‏{‏فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ‏}‏ بيان لاستمرار عدم إيمانهم في الزمان الماضي لا لعدم استمرار إيمانهم، ونظير ذلك ‏{‏لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 62‏]‏، وترتيب حالهم هذه على مجيء الرسل بالبينات بالفاء لما أن الاستمرار على فعل بعد ورود ما يوجب الإقلاع عنه يعد بحسب العنوان فعلا جديداً وصنعاً حادثاً كما في وعظته فلم ينزجر ودعوته فلم يجب، واللام لتأكيد النفي أي فما صح وما استقام لقوم من أولئك الأقوام في وقت من الأوقات ليؤمنوا بل كان ذلك ممتنعاً منهم إلى أن لقوا ما لقوا لغاية عتوهم وشدة شكيمتهم في الكفر والطغيان ثم إن كان المحكى آخر حال كل قوم منهم فالمراد بعدم إيمانهم هو إصرارهم على ذلك بعد اللتيا والتي وبما أشير إليه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ‏}‏ تكذيبهم من لدن مجيء الرسل عليهم السلام إلى وقت الإصرار والعناد، وهذا معنى كلام الزجاج فما كانوا ليؤمنوا بعد رؤية تلك المعجزات بما كذبوا قبل رؤيتها، يعني أول ما جاؤوهم فاجأوهم بالتكذيب فأتوا بالمعجزات فأصروا على التكذيب وإلى هذا ذهب الحسن أيضاً، وإنما لم يجعل ذلك مقصوداً بالذات كالأول بل جعل صلة للموصول المحذوف عائده أي الذي كذبوه إيذاناً بأنه بين في نفسه، وإنما المحتاج إلى البيان عدم إيمانهم بعد تواتر البينات الباهرة وتظاهر المعجزات الظاهرة التي كانت تضطرهم إلى القبول لو كانوا من ذوي العقول، والموصول الذي تعلق به الإيمان والتكذيب إيجاباً وسلباً عبارة عن جميع الشرائع التي جاء بها كل رسول أصولها وفروعها وإن كان المحكى جميع أحوال كل قوم منهم فالمراد على ما قيل بما ذكر أولا كفرهم المستمر من حين مجيء الرسل عليهم السلام إلى آخر أمرهم وبما أشير إليه آخراً تكذيبهم قبل مجيئهم فلا بد من جعل الموصول عبارة عن أصول الشرائع التي لا تقبل التبدل والتغير واجتمعت الرسل قاطبة عليها ودعوا الأمم إليها كلمة التوحيد ولوازمها ومعنى تكذيبهم بها قبل مجيء الرسل أنهم كانوا يسمعونها من بقايا من قبلهم فيكذبونها لا أن العقل يرشد إليها ويحكم بها ويخالفونه ثم كانت حالهم بعد مجيء الرسل إليهم كحالهم قبل كأن لم يبعث إليهم أحد وتخصيص التكذيب وعدم الإيمان بما ذكر من الأصول لظهور حال الباقي بدلالة النص فإنهم حين لم يؤمنوا بما اجتمعت عليه كافة الرسل فلأن لا يؤمنوا بما تفرد به بعضهم أولى، وعدم جعل هذا التكذيب مقصوداً بالذات لما أنه ليس مدار العذاب بل مداره التكذيب بعد البعثة كما يفصح عنه قوله تعالى‏:‏

‏{‏وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 15‏]‏ وإنما ذكر ما وقع قبلها بياناً لعراقتهم في الكفر والتكذيب، وقيل‏:‏ المراد بما أشير إليه آخرا تكذيبهم الذي أسروه يوم الميثاق، وروي ذلك عن أبي بن كعب‏.‏ والربيع‏.‏ والسدى‏.‏ ومقاتل‏.‏ واختاره الطبري‏.‏

وأخرج ابن جرير‏.‏ وابن أبي حاتم وغيرهما عن مجاهد أن الآية على حد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ رُدُّواْ لعادوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 28‏]‏ فالمعنى ما كانوا لو أهلكناهم ثم أحييناهم ليؤمنوا بما كذبوا قبل إهلاكهم، وعلى هذا فالمراد بالموصول جميع الشرائع أصولها وفروعها وفيه من المبالغة في إصرارهم وعتوهم ما لا يخفى إلا أنه في غاية الخفاء، وأيا ما كان فالضمائر الثلاثة متوافقة في المرجع، وقيل ضمير ‏{‏كَذَّبُواْ‏}‏ راجع إلى أسلافهم، والمعنى فما كان الأبناء ليؤمنوا بما كذب به الآباء، ولا يخفى ما فيه من التعسف، وذهب الأخفش إلى أن الباء سببية وما مصدرية والمعنى عليه كما قيل‏:‏ فما كانوا ليؤمنوا الآن أي عند مجيء الرسل لما سبق منهم من التكذيب الذي ألفوه وتمرنوا عليه قبل مجيئهم أو لم يؤمنوا قط واستمروا على تكذيبهم لما حصل منهم من التكذيب حين مجيء الرسل‏.‏

‏{‏كذلك‏}‏ أي مثل ذلك الطبع الشديد المحكم ‏{‏يَطْبَعُ الله على قُلُوبِ الكافرين‏}‏ أي قلوبهم فوضع المظهر موضع المضمر ليدل على أن الطبع بسبب الكفر وإلى هذا يشير كلام الزجاج وصرح به بعضهم، ويجوز ولعله الأولى أن يراد بالكفافرين ما يشمل المذكورين وغيرهم وفي ذلك من تحذير السامعين ما لا يخفى، وإظهار الاسم الجليل بطريق الالتفات لتربية المهابة وإدخال الروعة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏102‏]‏

‏{‏وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ ‏(‏102‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا وَجَدْنَا لاِكْثَرِهِم‏}‏ أي أكثر الأمم المذكورين، ووجد متعدية لواحد واللام متعلقة بها كما في قولك‏:‏ ما وجدت لزيد مالا أي ما صادفت له مالا ولا لقيته أو بمحذوف كما قال أبو البقاء وقع حالا من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَّنْ عاهد‏}‏ لأنه في الأصل صفة للنكرة فلما قدمت عليها انتصبت حالا ومن مزيدة للاستغراق وجوز أن تكون وجد علمية والأول أظهر، والكلام على تقدير مضاف أي ما وجدنا وفاء عهد كائن لأكثرهم فإنهم نقضوا ما عاهدوا عليه الله تعالى عند مساس البأساء والضراء قائلين ‏{‏لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِين‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 22‏]‏ وإلى هذا ذهب قتادة وتخصيص هذا الشأن بأكثرهم ليس لأن بعضهم كانوا يوفون بالعهد بل لأن بعضهم كانوا لا يعهدون ولا يوفون، وقيل‏:‏ المراد بالعهد ما وقع يوم أخد الميثاق، وروي ذلك عن أبي بن كعب‏.‏ وأبي العالية، وقيل‏:‏ المراد به ما عهد الله تعالى إليهم من الإيمان والتقوى بنصب الدلائل والحجج وإنزال الآيات، وفسره ابن مسعود بالإيمان كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 78‏]‏، وقيل‏:‏ هو بمعنى البقاء أي ما وجدنا لهم بقاء على فطرتهم، والمراد بالأكثر في الكل الكل، وذهب كثير من الناس إلى أن ضمير أكثرهم للناس وهو معلوم لشهرته، والجملة إلى فاسقين اعتراض لأنه لا اختصاص له بما قبله لكن لعمومه يؤكده‏.‏ وعلى الأول تتميم على ما نص عليه الطيبي وغيره ‏{‏وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ‏}‏ أي أكثر الأمم أو أكثر الناس أي علمناهم كقولك‏:‏ وجدت زيداً فاضلاً وبين وجد هذه ووجد السابق على المعنى الأول فيه الجناس التام المماثل و‏{‏ءانٍ‏}‏ مخففة من الثقيلة وضمير الشأن محذوف ولا عمل لها فيه لأنها ملغاة على المشهور، وتعين تفسير وجد بعلم الناصبة للمبتدأ والخبر لدخولها عليهما، فقد صرح الجمهور أنها لا تدخل إلا على المبتدأ أو على الأفعال الناسخة وخالف في ذلك الأخفش فلا يرى ذلك‏.‏

وجوز دخولها على غيرهما، وذهب الكوفيون إلى أن إن نافية، واللام في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لفاسقين‏}‏ اللام الفارقة وعند الكوفيين أن إن نافية واللام بمعنى إلا أي ما وجدنا أكثرهم الا خارجين عن الطاعة ويدخل في ذلك نقض العهد، وذكر الطيبي أنه إذا فسر الفاسقون بالناكثين يكون في الآية الطرد والعكس، وهو أن يؤتي بكلامين يقرر الأول بمنطوقه مفهوم الثاني وبالعكس، وهو كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانكم‏}‏ إلى قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 58‏]‏ فمنطوق الأمر بالاستئذان في الأوقات الثلاثة خاصة مقرر لمفهوم رفع الجناح فيما عداها وبالعكس، وكذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَّ يَعْصُونَ الله مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 6‏]‏ وهذا النوع من الأطناب يقابله في الإيجاز نوع الاحتباك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏103‏]‏

‏{‏ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏103‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم موسى‏}‏ أي أرسلناه عليه السلام بعد الرسل أو بعد الأمم والأول متقدم في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 101‏]‏ والثاني مدلول عليه بـِ ‏{‏تلك القرى‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 101‏]‏ والاحتمال الأول أولى، والتصريح بالبعدية مع ثم الدالة عليها قيل للتنصيص على أنها للتراخي الزماني فإنها كثيراً ما تسعمل في غيره، وقيل‏:‏ للإيذان بأن بعثه عليه السلام جرى على سنن السنة الإلهية من ارسال الرسل تترى، و‏{‏مِنْ‏}‏ لابتداء الغاية، وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح لما مر مراراً من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏بئاياتنا‏}‏ متعلق بمحذوف وقع حالا من مفعول بعثنا أو صفة لمصدره أي بعثناه عليه السلام ملتبساً بها أو بعثناه بعثاً ملتبساً بها وأريد بها الآيات التسع المفصلة ‏{‏إلى فِرْعَوْنَ‏}‏ هو علم شخص ثم صار لقبا لكل من ملك مصر من العمالقة، كما أن كسرى لقب من ملك فارس، وقيصر لقب من ملك الروم، والنجاشي لقب من ملك الحبشة، وتبع لقب من ملك اليمن، وقيل‏:‏ إنه من أول الأمر لقب لمن ذكر، واسمه الوليد بن مصعب بن الريان، وقيل‏:‏ قابوس وكنيته أبو العباس، وقيل‏:‏ أبو مرة، وقيل‏:‏ أبو الوليد، وعن جماعة أن قابوسا والوليد اسمان لشخصين أحدهما فرعون موسى والآخر فرعون يوسف عليهما السلام، وعن النقاش‏.‏ وتاج القراء أن فرعون موسى هو والد الخضر عليه السلام، وقيل‏:‏ ابنه وذلك من الغرابة بمكان، ويلقب به كل عات ويقال فيه فرعون كزنبور، وحكى ابن خالويه عن الفراء ضم فائه وفتح عينه وهي لغة نادرة، ويقال فيه‏:‏ فريع كزبير وعليه قول أمية بن الصلت‏:‏

حي داود بن عاد وموسى *** وفريع بنيانه بالثقال

وقيل‏:‏ هو فيه ضرورة شعر ومنع من الصرف لأنه أعجمي، وحكى أبو الخطاب بن دحية في مروج البحرين عن أبي النصر القشيري في التيسير أنه بلغة القبط اسم للتمساح، والقول بأنه لم ينصرف لأنه لا سميّ له كابليس عند من أخذخ من أبلس ليس بشيء، وقيل‏:‏ هو وأضراً به السابقة أعلام أشخاص وليست من علم الجنس لجمعها على فراعنة وقياصرة وأكاسرة، وعلم الجنس لا يجمع فلا بد من القول بوضع خاص لكل من تطلق عليه‏.‏ وتعقب بأنه ليس بشيء لأن الذي غره قول الرضى إن علم الجنس لا يجمع لأنه كالنكرة شامل للقليل والكثير لوضعه للماهية فلا حاجة لجمعه، وقد صرح النحاة بخلافه وممن ذكر جمعه السهيلي في الروض الأنف فكأن مراد الرضى أنه لا يطرد جمعه وما ذكره تعسف نحن في غنى عنه ‏{‏وَمَلاَئه‏}‏ أي أشراف قومه وتخصيصهم بالذكر مع عموم بعثته عليه السلام لقومه كافة لاصالتهم في تدبير الأمور واتباع غيرهم لهم في الورود والصدور ‏{‏وَمَلإِيِهِ فَظَلَمُواْ بِهَا‏}‏ أي بالآيات، وأصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه وهو يتعدى بنفسه لا بالباء إلا أنه لما كان هو والكفر من واد واحد عدى تعديته أو هو بمعنى الكفر مجازاً أو تضميناً أو هو مضمن معنى التكذيب أي ظلموا كافرين بها أو مكذبين بها، وقول بعضهم‏:‏ إن المعنى كفروا بها مكان الإيمان الذي هو من حقها لوضوحها ظاهر في التضمين كأنه قيل كفروا بها واضعين الكفر في غير موضعه حيث كان اللائق بهم الإيمان‏.‏

وقيل‏:‏ الباء للسببية ومفعول ظلموا محذوف أي ظلموا الناس بصدهم عن الإيمان أو أنفسهم كما قال الحسن‏.‏ والجبائي بسببها، والمراد به الاستمرار على الكفر بها إلى أن لقوا من العذاب ما لقوا‏.‏

‏{‏فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة المفسدين‏}‏ أي آخر أمرهم، ووضع المفسدين موضع ضميرهم للإيذان بأن الظلم مستلزم للافساد، والفاء لأنه كما أن ظلمهم بالآيات مستتبع لتلك العاقبة الهائلة كذلك حكايته مستتبع للأمر بالنظر إليها، والخطاب إما للنبي صلى الله عليه وسلم أو لكل من يتأتى منه النظر، و‏{‏كَيْفَ‏}‏ كما قال أبو البقاء وغيره خبر كان قدم على اسمها لاقتضائه الصدارة، والجملة في حيز النصب باسقاط الخافض كما، قيل‏:‏ أي فانظر بعين عقلك إلى كيفية ما فعلنا بهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏104‏]‏

‏{‏وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏104‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالَ مُوسَى‏}‏ كلام مبتدأ مسوق لتفصيل ما أجمل فيما قبله‏.‏

يا فرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ‏}‏ أي إليكم كما يشعر به ‏{‏قَدْ جِئْتُكُمْ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 105‏]‏ أو إليك كما يشعر به ‏{‏فأرسل‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 105‏]‏ أي إليكم كما يشعر به قد جئتكم أو إليك كما يشعر به فأرسل ‏{‏مِن رَّبّ العالمين‏}‏ أي سيدهم ومالك أمرهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏105‏]‏

‏{‏حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ‏(‏105‏)‏‏}‏

‏{‏حَقِيقٌ عَلَى أَن لا أَقُولَ عَلَى الله إِلاَّ الحق‏}‏ جواب لتكذيبه عليه السلام المدلول عليه بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَظَلَمُواْ بِهَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 103‏]‏، وحقيق صفة ‏{‏رسول‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 104‏]‏ أو خبر بعد خبر‏.‏

وقيل‏:‏ خبر مبتدأ محذوف أي أنا حقيق وهو بمعنى جدير و‏{‏على‏}‏ بمعنى الباء كما قال الفراء أو بمعنى حريص و‏{‏على‏}‏ على ظاهرها، قال أبو عبيدة‏:‏ أو بمعنى واجب، واستشكل بأن قول الحق هو الواجب على موسى عليه السلام لا العكس والكلام ظاهر فيه، وأجيب بأن أصله حقيق على بتشديد الياء كما في قراءة نافع‏.‏ ومجاهد ‏{‏أَن لا أَقُولَ‏}‏ الخ فقلب لأمن الالتباس كما في قول خراش بن زهير‏:‏

كذبتم وبيت الله حتى تعالجوا *** قوادم حرب لا تلين ولا تمرى

وتلحق خيل لا هوادة بينها *** وتشقى الرماح بالضياطرة الحمر

وضعف بأن القلب سواء كان قلب الألفاظ بالتقديم والتأخير كخرق الثوب المسمار أم قلب المعنى فقط كما هنا إنما يفصح إذا تضمن نكتة كما في البيت، وهي في الإشارة إلى كثرة الطعن حتى شقيت الرماح بهم لتكسرها بسبب ذلك، وقد أفصح عن هذا المتنبي بقوله‏:‏

والسيف يشقى كما تشقى الضلوع به *** وللسيوف كما للناس آجال

وبأن بين الواجب ومن يجب عليه ملازمة فعبر عن لزومه للواجب بوجوبه على الواجب كم استفاض العكس، وليس هو من الكناية الإيمائية كقول البحتري‏:‏

أو ما رأيت الجود ألقى رحله *** في أل طلحة ثم لم يتحول

وقول ابن هانىء‏:‏

فما جازه جود ولا حل دونه *** ولكن يسير الجود حيث يسير

بل هو تجوز فيه مبالغة حسنة، وبأن ذلك من الإغراق في الوصف بالصدق بأن يكون قد جعل قول الحق بمنزلة رجل يجب عليه شيء ثم جعل نفسه أي قابليته لقول الحق وقيامه به بمنزلة الواجب على قول الحق فيكون استعارة مكنية وتخييلية، والمعنى أنا واجب على الحق أن يسعى في أن أكون قائله والناطق به فكيف يتصور مني الكذب، واعترضه القطب الرازي وغيره بأنه إنما يتم لو كان هو حقيقاً على قول الحق وليس كذلك بل على قوله الحق، وجعل قوله الحق بحيث يجب عليه أن يسعى في أن يكون قائله لا معنى له‏.‏

وأجيب بأن مبني ذلك على أن المصدر المؤول لا بد من إضافته إلى ما كان مرفوعاً به وليس بمسلم فإنه قد يقطع النظر عن ذلك‏.‏

وقد صرح بعض النحاة بأن قد يكون نكرة نحو ‏{‏وَمَا كَانَ هذا القرءان أَن يَفْتَرِى‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 37‏]‏ أي افتراء، وههنا قد قطع النظر فيه عن الفاعل إذ المعنى حقيق على قول الحق وهو محصل مجموع الكلام فلا إشكال، وذكر ابن مقسم في توجيه الآية على قراءة الجمهور وادعى أنه الأولى أن ‏{‏عَلَى أَن لا أَقُولَ‏}‏ متعلق برسول إن قلنا بجواز إعمال الصفة إذا وصفت وإن لم نقل به وهو المشهور فهو متعلق بفعل يدل عليه أي أرسلت على أن لا أقول الخ، والأولى عندي كون علي بمعنى الباء، ويؤيده قراءة أبي بأن لا أقول‏.‏

وقرأ عبد الله ‏{‏أَن لا أَقُولَ‏}‏ بتقدير الجار وهو على أو الباء، وقد تقدم يقدر على بياء مشددة، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيّنَةٍ مّن رَّبّكُمْ‏}‏ استئناف مقرر لما قبله، ولم يكن هذا وما بعده من جواب فرعون إثر ما ذكر ههنا بل بعدما جرى بينهما من المحاورات التي قصها الله تعالى في غير ما موضع، وقد طوى ذكرها هنا للإيجاز و‏{‏مِنْ‏}‏ متعلقة إما بجئتكم على أنها لابتداء الغاية مجازاً وإما بمحذوف وقع صفة لبينة مفيدة لفخامتها الإضافية مؤكدة لخامتها الذاتية المستفادة من التنوين التفخيمي كما مر غير مرة، وإضافة اسم الرب إلى ضمير المخاطبين بعد إضافته فيما قبل إلى العالمين لتأكيد وجوب الايمان بها، وذكر الاسم الجليل الجامع في بيان كونه جديراً بقول الحق عليه سبحانه تهويلاً لأمر الافتراء عليه تعالى شأنه مع الإشارة إلى التعليل بما ليس وراءه غاية ‏{‏فَأَرْسِلْ مَعِىَ بَنِى إسراءيل‏}‏ أي خلهم حتى يذهبوا معي إلى الأرض المقدسة التي هي وطن آبائهم، وكان عدو الله تعالى والقبط قد استبعدوهم بعد إنقراض الأسباط يستعملونهم ويكلفونهم الأفاعيل الشاقة كالبناء وحمل الماء فانقدهم الله تعالى بموسى عليه السلام، وكان بين اليوم الذي دخل فيه يوسف عليه السلام مصر واليوم الذي دخل فيه موسى عليه السلام على ما روى عن وهب أربعمائة سنة، واستعمال الإرسال بما أشير إليه على ما يظهر من كلام الراغب حقيقة، وقيل‏:‏ إنه استعارة من إرسال الطير من القفص تمثيلية أو تبعية، ولا يخفى أنه ساقط عن وكر القبول، والفاء لترتيب الإرسال أو الأمر به على ما قبله من رسالته عليه السلام ومجيئه بالبينة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏106‏]‏

‏{‏قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآَيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏106‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ استئناف بياني كأنه قيل‏:‏ فما قال فرعون‏؟‏ فقيل‏:‏ قال‏:‏

‏{‏قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ‏}‏ من عند من أرسلك كما تدعيه ‏{‏فَأْتِ بِهَا‏}‏ أي فأحضرها عندي ليثبت بها صدقك في دعواك، فالمغايرة بين الشرط والجزاء مما لا غبار عليه، ولعل الأمر غني عن التزام ذلك لحصوله بما لا أظنه يخفي عليك ‏{‏إِن كُنتَ مِنَ الصادقين‏}‏ في دعواك فإن كونك من جملة لمعروفين بالصدق يقتضي إظهار الآية لا محالة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏107‏]‏

‏{‏فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ ‏(‏107‏)‏‏}‏

‏{‏فألقى عَصَاهُ‏}‏ وكانت كما روى ابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم من عوسج‏.‏ وروى عن علي كرم الله تعالى وجهه أنها كانت من لوز‏.‏

وأخرج عبد بن حميد‏.‏ وأبو الشيخ عن قتادة أنه قال‏:‏ ذكر لنا أنها عصا آدم عليه السلام أعطاها لموسى ملك حين توجه إلى مدين فكانت تضيء له بالليل ويضرب بها الأرض بالنهار فيخرج له رزقه ويهش بها على غنمه، والمشهور أنها كانت من آس الجنة وكانت لآدم عليه السلام ثم وصلت إلى شعيب فأعطاه إياها، وجاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن اسمها مأشا ‏{‏فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ‏}‏ أي حية ضخمة طويلة‏.‏ وعن الفراء أن الثعبان هو الذكر العظيم من الحيات‏.‏ وقال آخرون‏:‏ إنه الحية مطلقاً‏.‏

وفي «مجمع البيان» أنه مشتق من ثعب الماء إذا انفجر، فكأنه سمي بذلك لأنه يجري كعنق الماء إذا انفجر ‏{‏مُّبِينٌ‏}‏ أي ظاهر أمره لا يشك في كونه ثعباناً؛ فهو إشارة إلى أن الصيرورة حقيقية لا تخييلية، وإيثار الجملة الاسمية للدلالة على كمال سرعة الانقلاب وثبات وصف الثعبانية فيها كأنها في الأصل كذلك، وروى عن ابن عباس‏.‏ والسدي أنه عليه السلام لما ألقاها صارت حية صفراء شعراء فاغرة فاهاً بين لحييا ثمانون ذراعاً وارتفعت من الأرض بقدر ميل وقامت على ذنبها واضعة لحيها الأسفل في الأرض ولحيها الأعلى على سور القصر وتوجهت نحو فرعون لتأخذه فوثب عن سريره هارباً وأحدث، وفي بعض الروايات أنه أحدث في ذلك اليوم أربعمائة مرة، وفي أخرى أنه استمر معه داء البطن حتى غرق، وقيل‏:‏ إنها أخذت قبة فرعون بين أنيابها وأنها حملت على الناس فانهزموا مزدحمين فمات منهم خمسة وعشرون أ*فاً، فصاح فرعون يا موسى أنشدك بالذي أرسلك أن تأخذها وأنا أومن بك وأرسل معك بني إسرائيل، فأخذها فعادت عصا كما كانت، وعن معمر أنها كانت في العظم كالمدينة، وقيل‏:‏ كان طولها ثمانين ذراعاً، وعن وهب بن منبه أن بين لحييها اثني عشر ذراعاً، وعلى جميع الروايات لا تعارض بين ماهنا وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏كَأَنَّهَا جَانٌّ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 10‏]‏ بناء على أن الجان هي الحية الصغيرة لما قالوا‏:‏ إن القصة غير واحدة، أو أن المقصود من ذلك تشبيهاً في خفة الحركة بالجان لا بيان جثتها، أو لما قيل‏:‏ إنها انقلبت جاناً وصارت ثعباناً فحكيت الحالتان في آيتين، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك‏.‏ والآية من أقوى أدلة جواز انقلاب الشيء عن حقيقته كالنحاس إلى الذهب، إذ لو كان ذلك تخييلاً لبطل الإعجاز، ولم يكن لذكر مبين معنى مبين، وارتكاب غير الظاهر غير ظاهر، ويدل لذلك أيضاً أنه لا مانع في القدرة من توجه الأمر التكويني إلى ما ذكر وتخصيص الإرادة له، والقول بأن قلب الحقائق محالوالقدرة لا تتعلق به فلا يكون النحاس ذهباً رصاص مموه، والحق جواز الانقلاب إما بمعنى أنه تعالى يخلق بدل النحاس ذهباً على ما هو رأي المحققين، أو بأن يسلب عن أجزاء النحاس الوصفي الذي صار به نحاساً ويخلقفيه الوصف الذي يصير به ذهباً على ما هو رأي بعض المتكلمين من تجانس الجواهر واستوائها في قبول الصفات، والمحال إنما هو انقلابه ذهباً مع كونه نحاساً لامتناع كون الشيء في الزمن الواحد نحاساً وذهباً، وعلى أحد هذين الاعتبارين توكأ أئمة التفسير في أمر العصا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏108‏]‏

‏{‏وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ ‏(‏108‏)‏‏}‏

‏{‏وَنَزَعَ يَدَهُ‏}‏ أي أخرجها من جيبه لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ادخل يَدَكَ فِى جَيْبِكَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 12‏]‏ أو من تحت أبطه لقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 22‏]‏ والجمع بينهما ممكن في زمان واحد، وكانت اليد اليمنى كما صرح به في بعض الآثار ‏{‏فَإِذَا هِىَ بَيْضَاء للناظرين‏}‏ أي بيضاء بياضاً نورانياً خارجاً عن العادة يجتمع عليه النظار‏.‏ فقد روى أنه أضاء له ما بين السماء السماء والأرض، وجاء في رواية أنه أرى فرعون يده، وقال عليه السلام‏:‏ ما هذه‏؟‏ فقال‏:‏ يدك‏.‏ ثم أدخلها جيبه وعليه مدرعه صوف ونزعها فإذا هي بيضاء بياضاً نورانياً غلب شعاعه شعاع الشمس، وقيل‏:‏ المعنى بيضاء لأجل النظار لا أنها بيضاء في أصل خلقتها لأنه عليه السلام كان آدم شديد الأدمة، فقد أخرج البخاري عن ابن عمر قال‏:‏ ‏"‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما موسى فآدم جثيم سبط كأنه من رجال الزط ‏"‏ وعنى عليه الصلاة والسلام بالزنط جنساً من السودان والهنود، ونص البعض على أن ذلك البياض إنما كان في الكف وإطلاق اليد عليها حقيقة‏.‏

وفي «القاموس» الكيد الكف أو من أطراف الأصابع إلى الكف، وأصلها يدي بدليل جمعها على أيدي ولم ترد اليد عند الإضافة لما تقرر في محله، وجاء في كلامهم يد بالتشديد وهو لغة فيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏109‏]‏

‏{‏قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ‏(‏109‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ الملا مِن قَوْمِ فِرْعَونَ‏}‏ أي الأشراف منهم وهم أهل مشورته ورؤساء دولته‏.‏

‏{‏إِنَّ هذا لساحر عَلِيمٌ‏}‏ أي مبالغ في علم السحر ماهر فيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏110‏]‏

‏{‏يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ‏(‏110‏)‏‏}‏

‏{‏يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مّنْ أَرْضِكُمْ‏}‏ أي من أرض مصر ‏{‏فَمَاذَا تَأْمُرُونَ‏}‏ أي تشيرون في أمره كما فسره بذلك ابن عباس، فهو من الأمر بمعنى المشاورة، يقال‏:‏ آمرته فآمرني أي شاورته فأشار على، وقيل من الأمر المعهود، و‏{‏مَاذَا‏}‏ في محل نصب على أنه مفعول لتأمرون بحذف الجار، أي بأي شيء تأمرون، وقيل‏:‏ ‏{‏مَا‏}‏ خبر مقدم و‏{‏ذَا‏}‏ اسم موصول مبتدأ مؤخر، أي ما الذي تأمرون به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏111‏]‏

‏{‏قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ‏(‏111‏)‏‏}‏

أي أخر أمرهما وأصدرهما عنك ولا تعجل في أمرهما حتى ترى رأيك فيهما، وقيل‏:‏ احبسهما، واعترض بأنه لم يثبت منه الحبس‏.‏

وأجيب بأن الأمر به لا يوجب وقوعه؛ وقيل عليه أيضاً‏:‏ إنه لم يكن قادراً على الحبس بعد أن رأى ما رأى، وقوله‏:‏ ‏{‏لاجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 29‏]‏ في الشعراء كان قبل هذا، وأجيب بأن القائلين لعلهم لم يعلموا ذلك منه، وقال أبو منصور‏:‏ الأمر بالتأخير دل على أنه تقدم منه أمر آخر وهو الهم بقتله، فقالوا‏:‏ أخره ليتبين حاله للناس، وليس بلازم كما لا يخف؛ وأصل أرجه أرجئه بهمزة ساكنة وهاء مضمونة دون واو ثم حذفت الهمزة وسكنت الهاء لتشبيه المنفصل بالمتصل، وجعل جه وكابل في إسكان وسطه، وبذلك قرأ أبو عمرو‏.‏ وأبو بكر‏.‏ ويعقوب على أنه من أرجات، وكذلك قراءة ابن كثير‏.‏ وهشام‏.‏ وابن عامر ‏{‏أرجئهو‏}‏ بهمزة ساكنة وهاء متصلة بواو الاشباع‏.‏

وقرأ نافع في رواية ورش‏.‏ وإسماعيل‏.‏ والكسائي ‏{‏أرجهي‏}‏ بهاء مكسورة بعدها ياء من أرجيت، وفي رواية قالون ‏{‏ءانٍ أَرْجِهْ‏}‏ بحذف الياء للاكتفاء عنها بالكسرة، وقرأ ابن عامر برواية ابن ذكوان ‏{‏أرجئه‏}‏ بالهمزة وكسر الهاء، وقد ذكر بعضهم أن ضم الهاء وكسرها والهمز وعدمه لغتان مشهورتان، وهل هما ماذتان أو الياء بدل من الهمزة كتوضأت وتوضيت‏؟‏ قولان، وطعن في القراءة على رواية ابن ذكوان، فقال الحوفي‏:‏ إنها ليست بجيدة، وقال الفارسي‏:‏ إن ضم الهاء مع الهمزة لا يجوز غيره وكسرها غلط لأن الهاء لا تكسر إلا بعد ياء ساكنة أو كسرة، وأجيب كما قال الشهاب عنه بوجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن الهمزة ساكنة والحرف الساكن حاجز غير حصين فكأن الهاء وليت الجيم المكسورة فلذا كسرت، والثاني‏:‏ أن الهمزة عرضة للتغيير كثيراً بالحذف وإبدالها ياء إذا سكنت بعد كسرة فكأنها وليست ياء ساكنة فلذا كسرت‏.‏ وأورد على ذلك أو شامة أن الهمزة تعد حاجزاً وأن الهمزة لو كانت ياء كان المختار الضم نظراً لأصلها وليس بشيء بعد أن قالوا‏:‏ إن القراءة متواترة وما ذكر لغة ثابتة عن العرب، هذا واستشكل الجمع بين ما هنا وما في الشعراء فإن فيها ‏{‏قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لساحر عَلِيمٌ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 34، 35‏]‏ وهو صريح في أن ‏{‏إِنَّ هذا لساحر‏}‏ إلى ‏{‏فَمَاذَا تَأْمُرُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 109، 110‏]‏ كلام فرعون وما هنا صريح في نسبة قول ذلك للملا والقصة واحدة فكيف يختلف القائل في الموضعين وهل هذا إلا منافاة‏؟‏ وأجيب بأنه لا منافاة لاحتمالين‏.‏ الأول‏:‏ أن هذا الكلام قاله فرعون والملأ من قومه فهو كوقع الحافر على الحافر فنقل في الشعراء كلامه وهنا كلامهم، والثاني‏:‏ أن هذا الكلام قاله فرعون ابتداء ثم قاله الملأ إما بطريق الحكاية لأولادهم وغيرهم وإما بطريق التبليغ لسائر الناس فما في الشعراء كلام فرعون ابتداء وما هنا كلام الملا نقلاً عنه‏.‏

واختار الزمخشري أن ما هنا هو قول الملأ نقلاً عن فرعون بطريق التبليغ لا غير لأن القوم لما سمعوه خاطبوا فرعون بقولهم‏:‏ أرجه الخ، ولو كان ذلك كلام الملأ ابتداء لكان المطابق أن يجيبوهم بارجئوا، ولا سبيل إلى أنه كان نقلاً بطريق الحكاية لأنه حينئذ لم يكن مؤامرة ومشاورة مع القوم فلم يتجه جوابهم أصلاً، فتعين أن يكون بطريق التبليغ فلذا خاطبوه بالجواب‏.‏ بقي أن يقال هذا الجواب بالتأخير في الشعراء كلام الملأ لفرعون وههنا كلام سائر القوم‏.‏ لكن لا منافاة لجواز تطابق الجوابين‏.‏ وقول شيخ الإسلام‏:‏ إن كون ذلك جواب العامة يأباه أن الخطاب لفرعون وأن المشاورة ليست من وظائفهم ليس بشيء، لأن الأمر العظيم الذي تصيب تبعته أهل البلد يشاور فيه الملك الحازم عوامهم وخواصهم، وقد يجمعهم لذلك ويقول لهم‏:‏ ماذا ترون فهذا أمر لا يصيبني وحدي ورب رأي حسن عند من لم يظن به على أن في ذلك جمعاً لقلوبهم عليه وعلى الاحتفال بشأنه، وقد شاهدنا أن الحوادث العظام يلتفت فيها إلى العوام، وأمر موسى عليه السلام كان من أعظم الحوادث عند فرعون بعد أن شاهد منه ما شاهد ثك أنهم اختلفوا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَاذَا تَأْمُرُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 110‏]‏ فقيل‏:‏ إنه من تتمة كلام الملأ، واستظهره غير واحد لأنه مسوق مع كلامهم من غير فاصل، فالأنسب أن يكون من بقية كلامهم، وقال الفراء‏.‏ والجبائي‏:‏ إن كلام الملا قد تم عند قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مّنْ أَرْضِكُمْ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 110‏]‏ ثم قال فرعون‏:‏ فماذا تأمرون قالوا‏:‏ أرجه، وحينئذ يحتمل كما قال القطب أن يكون كلام الملأ مع فرعون وخطاب الجمع في يخرجكم إما لتفخيم شأنه أو لاعتباره مع خدمه وأعوانه‏.‏ ويحتمل أن يكون مع قوم فرعون والمشاورة منه‏.‏ ثم قال‏:‏ وإنما التزموا هذا التعسف ليكون مطابقاً لما في الشعراء في أن قوله‏:‏ ‏{‏مَاذَا تَأْمُرُونَ‏}‏ من كلام فرعون وقوله‏:‏ ‏{‏أَرْجِهْ وَأَخَاهُ‏}‏ كلام الملأ‏.‏ لكن ما ارتفعت المخالفة بالمرة لأن قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ هذا لساحر عَلِيمٌ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 109، 110‏]‏ كلام فرعون للملأ‏.‏ وفي هذه السورة على ما وجهوه كلام الملأ لفرعون، ولعلهم يحملونه على أنه قال لهم مرة وقالوه له أخرى انتهى‏.‏ ويمكن أن يقال‏:‏ إن الملأ لما رأوا من موسى عليه السلام ما رأوا قال بعضهم لبعض‏:‏ إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تشيرون وما تستحسنون في أمره‏؟‏ ولما رآهم فرعون أنهم مهتمون من ذلك قال لهم تنشيطاً لهم وتصويباً لما هم عليه قبل أن يجيب بعضهم بعضاً بما عنده مثل ماقالوه فيما بينهم فالتفتوا إليه وقالوا‏:‏ أرجه وأخاه، فحكى سبحانه هنا مشاورة بعضهم لبعض وعرض ما عندهم على فرعون أول وهلة قبل ذكره فيما بينهم، وحكى في«الشعراء» كلامه لهم ومشاورته إياهم التي هي طبق مشاورة بعضهم بعضاً المحكية هنا وجوابهم له بعد تلك المشاورة، وعلى هذا لا يدخل العوام في الشورى، ويكون ههنا أبلغ في ذم الملأ فليتدبر والله تعالى أعلم بأسرار كلامه ‏{‏وَأَرْسِلْ فِى المدائن‏}‏ أي البلاد جمع مدينة، وهي من مدن بالمكان كنصر إذا أقام به، ولكون الياء زائدة كما قال غير واحد تقلب همزة في الجمع، وأريد بها مطلق المدائن، وقيل‏:‏ مدائن صعيد مصر ‏{‏حاشرين‏}‏ أي رجالاً يجمعون السحرة، وفسره بعضهم بالشرط وهم أعوان الولاة لأنهم يجعلون لهم علامة، ويقال للواحد شرطي بسكون الراء نسبة للشرطة، وحكى في «القاموس» فتحها أيضاً، وفي الأساس أنه خطأ لأنه نسبة إلى الشرط الذي هو جمع، ونصب الوصف على أنه صفة لمحذوف ومفعوله محذوف أيضاً كما أشير إليه، وقد نص على ذلك الأجهوري‏.‏